كلام مباح
تغيَّب عمودي في العدد السابق من طنجتنا الأدبية لا لظروف السفر والالتحاق بمدينة الفنون في باريس حيث أستفيد من منحة تفرغ للكتابة، وإنما بسبب تشتت في الفكر وعدم التركيز، فما تعيشه المنطقة من أحداث متواترة ومتتالية تحتاج لفترة تأمل لاستيعابها وهضمها. طبعا سيقول قائل، إنه لمخجل أن يصدر موقف من كاتب بهذا التذبذب وعدم الوضوح في الرؤيا. لن أنافقكم ولن ألعب معكم لعبة الكاتب المناضل والملتزم بالقضايا المصيرية والوجودية... فأنا ببساطة لا أزال تحت وقع الصدمة، صدمة «التحرر»، صدمة نزول الشعوب العربية إلى الشارع... بكل صراحة فأنا لم أستوعب بعد ما يحدث... فهل هي حملة تطهير المحمية العربية من الوحوش التي شاخت وتعويضها بأخرى أكثر قوة وأقل شراسة؟
إلى اليوم ورغم فترة نقاهة باريسية حيث الوعي يتمدد على أرصفة الفكر والتعبير عن الرأي يتسامى في أروقة الإبداع الحر الطليق، أستطيع أن أتساءل جهرا: هل ما يعرفه العالم العربي من صحوة شعوبية هو وليد صناعة فكرية نضالية محلية أم هي بضاعة مصدرة تحمل توقيع أكبر منظري واستراتجيي البلقنة والعولمة؟
كان شهر ماي الماضي أول شهور إقامتي في باريس. كان شهرا مشبعا بالشمس، متخما بأنسام الربيع العربي التي هبت فجأة على أوروبا. خرج إسبانيو باريس في اعتصامات لا تنتهي استمرت لأيام في حشود هائلة احتلت مدرجات أوپيرا لاباستي الهرمية. تدغدغني نشوة عابرة وأنا أتجول بين هذه الحشود الإسبانية الشبابية التي تعتبر نفسها امتدادا طبيعيا لثورة الشباب العربي. وأصل إلى قناعة لا رجعة فيها: للإنسان ملة واحدة، هي الحرية، وبالحرية تتوحد الإنسانية.
بعد أسبوعين من احتلال الشباب الاسباني مدرجات أوپيرا لاباستيي، التحقت بها حشود من الشباب الفرنسي المؤيد للإسبان المعتصمين في ساحات: لاپويرطا ديل صول في مدريد، وكاطالونيا في برشلونة وغيرها من ساحات المدن الإسپانية. في اليوم الموالي طوقت حافلات قوات التدخل السريع الفرنسية ساحة لا باستي وأخلت مدرجات الأوپيرا الهرمية من المعتصمين ولم تعد حشود الشباب إلى احتفالات الاحتجاج منذ ذلك اليوم الذي تلبدت فيه سماء باريس بالغيوم واحتلت فضاءها أمطار ورياح عصفت بأحلام الشباب الذي كان بالأمس يرسل سخطه أغنيات تنشد الغد الأفضل. في ساحة لا باستي اكتشفتُ أن كل الأجهزة الأمنية في العالم تستعمل لغة العصا لقمع أحلام الإنسان البريئة. فهل الأمر يتعلق بإيداع الربيع العربي سجن لاباستي ما قبل الثورة الفرنسية؟
ويظل نفس السؤال يخالجني ويلح عليَ بصيغ مختلفة: من يكون هذا البستاني الماهر الذي صنع للعالم العربي ربيعه الزاهر؟ أخاف أن يأتي يوم نكتشف فيه أن كل هذا الاخضرار الذي وضعوه لربيعنا ما هو إلا عشب اصطناعي يضمن الشرط التقني لإقصائيات «كأس» عالمية طال أمدها واختير الملعب العربي لحسم مباراتها النهائية؟
جد هام: أنا لا أشك في براءة ومصداقية اللاعبين كما أحتفظ بحقي في أن أرتاب من مافيا الفيفا